إدارة الدراسات الإسلامية وعلوم القرآن لمحافظتي الفروانية والجهراء
ما نقصت صدقة من مال

ما نقصت صدقة من مال

08 يناير 2024

أثبتت الدراسات الحديثة التي أُجريت على العديد من المجتمعات الإنسانية أن التكافل الاجتماعي الذي يضمن الحد الأدنى من العيش الإنساني الكريم للطبقة الفقيرة هو أحد أهم مقومات نهوض المجتمعات وازدهارها واستقرارها، ومن هذا المنطلق جاء الإسلام بفقه الصدقة الذي جعل مساعدة المحتاج جزء لا يتجزأ من الدين، والشريعة حُبلى بالنصوص التي تحث وتشجع على الصدقة، حيث غالباً ما جاء ذِكر الزكاة في القرآن الكريم مقروناً بالصلاة دلالة وتأكيداً على فضلها وأهميتها، وجعل الشارعِ الحكيم بذل المال كفارة للعديد من الذنوب وزلات العباد، والسنة النبوية المطهرة تزخر بالمواقف والأحاديث والروايات التي تحث على الصدقة وتبين فضلها وأثرها في الدنيا والآخرة، ومن الغرابة أن تتجاوز فائدة الصدقة الشخص الفقير الذي يتلقاها لتصل إلى الشخص المُتَصَدِق نفسه، حيث أثبتت الدراسات أن المُتَصَدِق يشعر بالسعادة والرضى والراحة النفسية بل من العَجب أن الصدقة تعود بالنفع على المُتَصًدِق من الناحية الجسدية أيضاً، فقد أثبتت الدراسات أن الأشخاص الذين يبذلون مالهم أو وقتهم أو جهدهم بمساعدة الآخرين لديهم ضغط دم منخفض وقدرة أكبر على مقاومة الأمراض المزمنة مقارنة بالأشخاص الذين لا يساعدون غيرهم، وهذا من فضل الله على عباده ومصداقاً لقوله سبحانه: "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ: 39). ونظراً لإغفال بعض المسلمين عن أهمية الصدقة ومكانتها العظيمة في ديننا الحنيف ارتأينا أن نتناولها بشيء من التفصيل مبينين تعريفها، أهميتها، أنواعها، أشكالها، وفضائلها في الدنيا والآخرة.

يُعَرِّف الفقهاء الصدقة بأنّها العطيّة التي يُبتغى بها المثوبة من الله، أو المال الذي يخرجه العبد تقرباً لله تعالى، وللصدقة مكانة وفضل عظيم في الإسلام، فهي من أكثر الأعمال التي تدل على صدق إيمان العبد، فالنفوس بطبيعتها تحب الاستكثار من المال وجمعه كما قال تعالى: "وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا" (الفجر: 20). فمن أنفق ماله وخالف ما جُبِل عليه كان ذلك برهان إيمانه وصحة يقينه، وفي ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: "والصدقة برهان" (رواه الألباني). والصدقة نوعان، صدقة واجبة وهي الزكاة بأنواعها كزكاة المال، والفطر، والزروع، وعروض التجارة. وقد ورد ذكر الزكاة في مواضع كثيرة في القرآن الكريم كقوله تعالى: "وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ" (البقرة: 43)، وقوله تعالى: "وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (النور: 56). وذِكر الزكاة في القرآن غالباً يكون مقروناً بالصلاة مما يدل على أهميتها فهي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، والنوع الثاني من الصدقات يُعرَف بصدقة التطوع أو النفل وتكون عن طريق بذل المال كما في قوله تعالى: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ” (الحديد: 11)، أو بذل الوقت والجهد بمساعدة الآخرين ومعاملتهم معاملة حسنة، قال عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فيه الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، ويُعِينُ الرَّجُلَ علَى دابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عليها، أوْ يَرْفَعُ عليها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ، والكَلِمَةُ صَدَقَةٌ، وكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، ويُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ" (متفق عليه).

والصدقة تكون بالسِر وهي الأفضل وذلك درءاً للرياء وأقرب إلى الإخلاص وأنسب للمُعْطَى، قال الله تعالى: "إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ." (البقرة: 271). وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ذكره فضل وثواب صدقة السِر في حديثه عن السبعة أصناف من المسلمين الذين يظلهم الله بظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم الرجل الذي تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وتكون الصدقة أيضاً بالعلن إذا دعت لها الأسباب والحاجة كالرغبة في حث الآخرين وتشجيعهم على التصدق، عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: "كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في صَدْرِ النَّهَارِ، قالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ، مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِن مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِن مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِما رَأَى بهِمْ مِنَ الفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فأمَرَ بلَالًا فأذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخِرِ الآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وَالآيَةَ الَّتي في الحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ، مِن دِرْهَمِهِ، مِن ثَوْبِهِ، مِن صَاعِ بُرِّهِ، مِن صَاعِ تَمْرِهِ، حتَّى قالَ: ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ، قالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شَيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا مِن بَعْدِهِ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ." (رواه مسلم).

ولقبول الصدقة شروط أولها إخلاص النية لله تعالى، وتُعطى بنفسٍ طيبة بعيداً عن التثاقل، وأن يكون المال المُتَصَدق به حلالاً فلا يصح التصدق بمالٍ حرام مصدره رباً أو سرقة أو سلب أو نهب أو ما شابه، وألا يتبع المسلم الصدقة بالمنّ والأذى، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ" (البقرة: 264). وأخيراً، أن تكون الصدقة لمن يستحقها فقط في حال كانت زكاةً، وتجوز صدقة النفل على الغني المقتدر وتُستَحَب للفقير المحتاج.

وللصدقة بأنواعها فضائل كثيرة فهي:

تقي من النار، لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: "اتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمرةٍ" (متفق عليه).

وتطفئ غضب الرحمن، لقوله عليه الصلاة والسلام: " صِلَةُ الرَّحِمِ تزيدُ في العُمُرِ وصدَقةُ السِّرِ تطفئُ غضبَ الرَّبِّ" (رواه السيوطي).

وترفع صاحبها حتى توصله أعلى المنازل والدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الدنيا لأربعةِ نفَرٍ: عبدٌ رزَقَهُ اللهُ مالًا وعلماً فهو يَتَّقِي فيه ربَّهُ، ويَصِلُ فيه رَحِمَهُ، ويَعلَمُ للهِ فيه حقًّا، فهذا بِأفضلِ المنازِلِ.." (أخرجه الترمذي).

وتظِل صاحبها وتستره من حر شمس يوم الحساب، قال عليه الصلاة والسلام: "كلُّ امرئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِه حتى يُقْضَى بين الناسِ" (رواه الألباني).

وتزيد وتبارك في الأرزاق، قال صلى الله عليه وسلم: " أنْفِقْ يا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" (متفق عليه).

وثوابها مضاعفٌ عند رب الأرباب، قال صلى الله عليه وسلم: "ما تَصَدَّقَ أحَدٌ بصَدَقَةٍ مِن طَيِّبٍ، ولا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، إلَّا أخَذَها الرَّحْمَنُ بيَمِينِهِ وإنْ كانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو في كَفِّ الرَّحْمَنِ حتَّى تَكُونَ أعْظَمَ مِنَ الجَبَلِ كما يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أوْ فَصِيلَهُ" (رواه مسلم).

وتقي من البخل والشح، قال عليه الصلاة والسلام: "اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ علَى أنْ سَفَكُوا دِماءَهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحارِمَهُمْ" (رواه مسلم).

وهي نوع من أنواع الجهاد، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "جاهِدوا المشركِينَ بأموالِكُم وأنفسِكُم وألسنتِكُم" (رواه الألباني).

وهي من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا" (رواه الألباني).

وهي عمل خيري وثواب دائم لا ينقطع حتى بعد الممات، قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" (رواه مسلم).

قد يبادَر إلى الأذهان أي من الصدقات أفضل، فمن الناس من يرى أن سقي الماء هو أفضل الصدقات وذلك لما روى سعد بن عبادة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم "يا رسولَ اللهِ إنَّ أمي ماتت، أفأتصدقُ عنها؟ قال: نعم. قلتُ: فأيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: سقْيُ الماءِ" (رواه الألباني). ومن الناس من يعتقد أن إطعام الطعام هو أفضل الصدقات، وذلك لحديث عبدالله بن عمرو: "أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الإسْلَامِ خَيْرٌ؟ قالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وتَقْرَأُ السَّلَامَ علَى مَن عَرَفْتَ ومَن لَمْ تَعْرِفْ" (رواه البخاري). لكن الصحيح أن المفاضلة بين أنواع الصدقات إنما تكون بحسب نفعها وشدة الحاجة إليها، ففي وقت الجفاف وقلة الأمطار يكون سقي الماء أفضل الصدقات، وفي وقت النكبات والمجاعات يكون إطعام الطعام أفضل الصدقات، وكذلك الحال في باقي الصدقات يُفاضَل بينها بالنظر إلى نفعها وشدة الحاجة إليها حسب الظروف الراهنة، ويُجمِع الفقهاء على أن أفضل الصدقة وأعظمها أجراً ما كان في حال الصحة والحاجة إلى المال، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أَتَى رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ؟ فَقالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الفَقْرَ وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلَا تُمْهِلَ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، أَلَا وَقَدْ كانَ لِفُلَانٍ" (متفق عليه)، لذا فعلى المسلم أن يجتهد بالطاعات ويبادر بالصدقات ويستذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام: "ما نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ" (رواه مسلم)، ويستحضر حقيقة حياة الدنيا الفانية الزائلة، ويعمل للآخرة دار البقاء والقرار.

كتبه: مصعب العوضي

إدارة الدراسات الإسلامية وعلوم القرآن لمحافظتي الفروانية والجهراء